http://www.alimbaratur.com/All_Pages/Tornado_Stuff/Tornado_18/Mozart.jpg

 

النشيد الجنائزي" لموتسارت
توصية ماسونية أم تأمل ذاتي؟

هل كان موتزارت ماسونياً ؟ هذا السؤال كان ولا يزال يشغل بال الباحثين وبخاصة منهم أولئك الذين انكبوا على دراسة أعمال هذا الموسيقي الاستثنائي. وفي شكل عام طلع هؤلاء بيقين يقول إن موتزارت كان حقاً منتمياً الى محفل ماسوني, ولكن لم يكن له فيه ذلك النشاط الذي يمارسه عادة غلاة "البنائين الاحرار" من الذين يعطون عمرهم وأوقاتهم لذلك العمل الفكري والاجتماعي الذي يتطلبه الانتماء الى تلك الجمعية. ومع هذا, اذا كان الباحثون في عمل موتزارت يقسمون نتاجه الموسيقي الكبير ليضعوه في تصنيفات وخانات محددة مثل "موسيقى الحجرة", و"السيمفونيات" و"الاوبيرات" و"الكونشرتوات" و"القدّاسات والموسيقى الكورالية" وما شابه, فإن عدداً كبيراً منهم يضيف خانة محددة يطلق عليها اسم "الموسيقى الماسونية". وهؤلاء يوردون في هذه الخانة، ثلاثة أعمال لموتزارت على الأقل هي "الكانتاتا" (التي تحمل في تصنيف أعمال موتزارت الرقم ك623) و"Lied" الأغنية(التي تحمل الرقم ك623أ), وبخاصة "النشيد الجنائزي" (الذي يحمل الرقم ك477). غير ان هذا الحصر للأعمال "الماسونية" في مسيرة موتزارت الابداعية لا يمنع آخرين من ان يجدوا توجهات ماسونية, قد تكون أكثر غموضاً من الناحية الفنية, لكنها في رأيهم أكثر عمقاً من الناحية الفكرية, حتى في بعض أجواء "الناي السحري" وحتى في "دون جوان". ومع هذا كله يمكن القول ان العمل الوحيد الذي يحمل الصفة الماسونيةالحقة وكل وضوح يبقى ذلك "النشيد الجنائزي" الذي ألفه موتزارت أصلاً بناء على طلب من المحفل الذي اعتبر المؤرخون انه ينتمي اليه, وذلك تكريماً لرحيل اثنين من كبار ذلك المحفل قضيا في أوقات متقاربة احدهما الجنرال استراتزي. إن ما يهمنا هنا هو ذلك العمل الذي كتبه موتزارت في حماسة شديدة, في العام 1788 أي قبل رحيله بأقل من ثلاثة اعوام. ولعل الغريب في الأمر ان الموسيقي الشاب كتب "النشيد الجنائزي" في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام, في وقت كان يعمل فيه بكل جدية على وضع اللمسات الأولى لأوبرا "زواج فيغارو", كان لتوه قد أنجز بعض أكثر أعماله الموسيقية مرحاً وتفاؤلاً, ومنها على سبيل المثال  "الرباعي من مقام صول صغير للبيانو". ان هذا العمل الأخير يحتوي على مؤثرات أولية تتعلق بتعبير موتزارت عن قلقه التراجيدي, لكن بعض مقاطع العمل (ولا سيما "الاندانتــي" من مقام سي بيمول) الذي يكشــف عن غنائية ستجد ذروتها في الخاتمة التي أتت لتواصــل سحراً موسيقياً فاتنـاً. وكان موتزارت قد بدأ يعبر عن هذا منذ العام 1789 حيث كانت أعمال موتزارت تتأرجـح في ذلك الحين بين خلفيات تأمليـة مشوبة بالقلق وتعبير غنائي عن تفاؤل بالحياة,. وهكــذا أتى "النشيـد الجنائزي" استكمالاً لحيرة تلك المرحلة... وهو على اي حال كـان من اروع ما ألفــه موتزارت في تلك المرحلة من حياته، حتى وإن كان لا بد من التذكير مرة أخـــرى بأن العمل كان من نـوع الوصية, اي استجابة لطلب من الأعيان الماسونيين. هنا, وعلى عادته, تمكــن موتزارت من ان يحول عمل التوصيـة ذاك الى عمل خاص جداً, وكان هذا العمل بمثابة تأمل ذاتي حول الموت: لكنه كان تأملاً لا يخلو من مزيج من الايمان والاحتجاج والتطلع الى الدعة والسلام مع الذات في نهاية الأمر.

فهل معنى هذا ان "النشيد الجنائزي" كان تمريناً موسيقياً عاماً, بخاصة موتزارت قبل ان يكتب عمله "الأخير", أي "الجناز" الذي تقول الحكاية ان شخصاً غامضاً قد أوصاه بكتابته ودفع له ثمنه, كإعلان موت للموسيقي نفسه؟ ربما... ومع هذا, يقول المختصون في اعمال موتزارت ان هذا الاخير, حتى حين كتب ذلك "الجناز" كان يعرف انه في نهاية الامر انما يكتب لنفسه كاشفاً أسرار أفكاره وآرائه في الدين والحياة والوجود... والمؤسف طبعاً هو ان هذا العمل لم يكتمل ابداً على يدي موتسارت, إذ زاره الوباء وقضى عليه وهو يكتب جزءاً منه شاء ان يعنونه بكلمتي "هومو روسي"... أما بالنسبة الى "النشيد الجنائزي" فإنه مكتمل... ومكتمل بخاصة في قدرته على التعبير عن موقف مؤلفه من الموت, اذاً... كتب موتزارت "النشيد الجنائزي" في العام 1788, ليعترف في جنازة بعض أعيان الماسونيين من زعماء المحفل الذي انضم اليه أن هذا كان بناء على نصيحة والده... والحال ان الطابع العمل والمؤسسي لهذا العمل يكاد يبدو أعجوبة اذا ما قارناه بأعمال أخرى لموتزارت كتبها مباشرة قبله ومباشرة بعده. فمن ناحية ظاهرية كانت هذه الاعمال تشير بأن موتزارت يعيش حقبة متألقة من حياته..., وكما يكشف لنا "النشيد الجنائزي" ن الحس التراجيدي، بدأ يهيمن على "طفل الموسيقى المعجزة . ومن هنا فإن الصدق في "النشيد الجنائزي" يغلب "التصنع" الطاغي على المؤلفـات المعاصرة له, النبضة بالنور والحياة. ولعل اول ما يلفت النظر في هذا "النشيد الجنائزي" هو افراط المؤلف في استخدام آلات النفخ, ولا سيما آلة الكلارينيت التي تقدم منذ البداية ما يسمى بـ"كانتوس فيرموس... وهو نشيد ذو طبيعة دينية خالصة. ولئن أتى هذا "النشيد" هنا كلاسيكياً في تعبيره عن العلاقة بين الدين والموت, فإن موتزارت سرعان ما يطور كتابته الموسيقية ضمن اطار لغة هارمونية ذات "جرأة مفاجئة" بحسب تعبير الباحثين... وذلك عبر جمل موسيقية شديدة الحداثة وتكاد تكون "ذات طابع هجومي", اذ تأتي بين لحظة وأخرى لتعكر الصفاء والدعة التأملية, التي تطبع اولى نوطات العمل... وبعد ذلك إذ تتحوّل الموسيقى كلها الى نوع من الشكوى التضرعية, يدخل المارش الجنائزي في شكل مباغت ليقطع سريان الشكوى مصحوباً بـ"الكانتوس فيرموس" الذي كان قد طالعنا في بداية العمل... وهذا كله يعطي المستمع شعوراً بأن "الموكب الجنائزي" يقترب ويقترب حاملاً معه الموت, ثم يُجمد في شكل فجائي وكأن السائرين بالموكب يريدون للجثمان ان يستريح عند مكان ما قد تكون له معه ذكرى معينة... وهكذا إثر هذا الجمود تبدأ الموسيقى بالاتسام بطابع شديد الألم والرقة في الوقت نفسه... غير ان هذا الطابع وخلال اللحظات التالية وفي شكل تدريجي يبدأ بترك المكان لنوع من الاستسلام الصامت امام حقيقة ما حدث اي أمام حقيقة الموت. هنا يكون الألم تحول الى اذعان وتذوب الألحان في نغمة تبدو وكأنها تعبير عن شعاع شمس فجائي يغمر المكان ممزقاً كل تلك الغيوم الرمادية التي تكون قد استسلمنا لها انها راحة اليقين, بعد قلق الألم الأول. واضح من هذا الوصـف ان هـذا العمـل انما يعبر عن تأملات عميقة كان أميديوس وولفغانغ موتزارت (1756-1791 قد بدأ بالتأمل في الموت .الموت في صورة عامة وموت الآخرين ثم موته هو شخصيا .ً تأملات تعبر، في الحقيقة، عن خوفه أمام خطر كان بدأ يكبر لديه وهو بقرب النهاية. ولعل هذا الطابع الذاتي الصادق, أفضل وأجمل سمات هذا العمل الــذي هو عمل نابع من داخل الموسيقـي, حتى وإن كان عمل توصية أوصاه به الماسونيون. وهذا العمل يصنف عادة بين أعمال موتزارت الكبرى الى جانب اوبراته العظيمة وسيمفونياته, ولكن بخاصة الى جانب تلك الاعمال الدينية التي لم يفت الباحثين ان يقولوا دائماً انها أعمال فلسفية أولاً وأخيراً.

                                                                                                                      إبراهيم العريس - الحياة – 2004

تمت مراجعة النص بمعرفة د. جميل نجار