إنّ كلمة
الإخاء التي
ينادي بها
دعاة
الإنسانية في
عصرنا, ليست
ابنة اليوم فحسبُ,
بل هي ابنة
جميع العصور,
وقد برزت إلى
الوجود منذ
شعر الإنسان
بأنّ بينه
وبين الآخرين اشتراكًا
في فكرة أو
عاطفة أو
منفعة, وبأنهم
يشبهونه
رغبات
واحتياجات
وميولاً. يجب
أنْ يتألم
المرء ليدرك
عذوبة الحنان,
يجب أنْ يحتاج
إلى الآخرين
ليعلم كم يحتاج
غيره إليه,
يجب أنْ يرى
حقوقه مهضومة
يُزدري بها
ليفهم أنّ
حقوق الغير
مقدسة يجب
احترامها, يجب
أنْ يرى نفسه
وحيدًا,
ملتاعًا, دامى
الجراح ليعرف
نفسه أولاً ثم
يعرف غيره,
فيستخرج من
هذا التعارف
العميق معنى
التعاون والتعاضد.
كذلك ارتقى
معنى الإخاء
بارتقاء
الإنسان.
فى جمعيات سرية
وعلنية, في
جمعيات علمية
وفلسفية
ودينية
وروحانية
استُعملت
كلمة الإخاء
بين الإنسان
والإنسان
قرونًا
طوالاً, حتى
جاءت الثورة
الفرنساوية
تهدم أسوار
العبودية
بهدم جدران
الباستيل,
وتعلن حقوق
الإنسان
مستخلصة من
بين الأخربة
والدماء
والجماجم,
كلمات ثلاثًا
هنَّ شعار العالم
الراقي:
حريةٌ,
مساواة,
إخاءٌ.
حرية, مساواة:
كلمتان
جميلتان يخفق
لهما قلبُ كل
محب
للإنسانية,
لكن - لا بدَّ
لكل شيءٍ من
(لكن) - هل كان
تحقيقهما في استطاعة
البشر? ما
أضيق معنى
الحرية إذا
ذكرنا أنّ
مجموعة الكائنات
تكوّن وحدة
العالم, وأنّ
على كلٍّ منها
أنْ يصل إلى
درجة معينة من
النمو
مشتركًا مع بقية
الكائنات في
إكمال النظام
الشامل. وفي
وسط هذا
النظام القاهر
نرى الإنسان
وحدهُ
متصرفًا في
أفعالهِ بشرط
أنْ يخضع
للقوانين
المحيطة به
والنافذة فيه.
هو حرٌّ بشرط
أنْ تنتهي
حريته حيث
تبتدئ حرية
جاره, وبشرط
أنْ يعلم أنه
حيثما وجَّه
أنظاره
وأفكاره وجد
نظامًا
معينًا; وأنّ
حريته, كلَّ
حريتهِ, قائمة
في اختيار
السير مع ذلك
النظام أو
ضده,
واستعماله
للخير أو
الشر, للربح
أو الخسران.
فما أكثرها
شروطًا تقيد
هذه الحرية
التي تندكُّ
لأجلها
العروش وتتطاحن
الأمم للحصول
عليها!
أما المساواة
فحلمٌ جميل
ليس غير. لأن
الطبيعة في
نشوئها التدريجى
لا تعرف إلاّ
الاختلاف
والتفاوت. أين
المساواة بين
النشيط من
البشر
والكسول, بين
صحيح البنية
والعليل
وراثة, بين
الذكي وغير
الذكي, بين الصالح
والشرير? كلا,
ليست
المساواة
بالأمر الميسور,
بل هي معاكسة
لنظام حيوي
إذا غولب
كان غالبًا
قاهرًا.
كلمة واحدة, تجمع بين
حروفها
الحرية
والمساواة,
وجميع المعاني
السامية
والعواطف
الشريفة. كلمة
واحدة تدلّ
على أنّ البشر
إِذا اختلفوا
في بشريتهم
اختلافًا مبينًا
فهم واحد في
الجوهر, واحد
في البداية والنهاية.
كلمة واحدة هي
بلْسم القروح
الاجتماعية
ودواء العِلل
الإنسانية,
وتلك الكلمة
هي الإخاء. لو
أدرك البشر
أخوَّتهم لما
رأينا الشعوب
مشتبكات
بحروب هائلة
صرعت فيها
زهرة الشبيبة,
وما زالت
الدماء جارية
في القارات الأربع
وما يظللها من
سماء
ويتخللها من
ماء. لو
أدرك البشر
أخوَّتهم لما
وجدنا في
التاريخ بقعًا
سوداء تقف
عندها نفوسنا
حيارى. لو أدرك
البشر
أخوَّتهم لما
رأينا
المطامع تدفع
الأمم القوية
إلى استعباد
الأمم
الضعيفة. لو
أدرك البشر
أخوَّتهم لما
سمعنا في
اجتماعاتنا
كلمات جارحات
يجازف بها
كلٌّ في حق
أخيه, وهي من
أركان أحاديث
صالوناتنا
الجميلة. ولكن
لننزلنَّ
قليلاً إِلي
ما هو تحت
السياسة
والتاريخ والصالونات,
لننزلنَّ
إلى مهبط
الشعب حيث الشقاء
مخيم, واليأس
مستديم.
يتفجر ينبوع
النهر في
أعالي الجبال,
فيهرول مقهقهًا
على الصخور,
حتى إذا ما
حشر وسط الشواجن
الخضراء ملأ
الوادي
ألحانًا
وأنغامًا.
يجري في
الصحاري
والقفار
فتنقلب
القفار
والصحاري مروجًا
خصيبة وجنات
زاهرة. يسير
في البادية
والحضر على السواء
فيروي سكان
المدينة وأهل
القرية بلا تفريق
بين الشريف
والحقير. يرضع
الأشجار
بتغلغله في
صدر الأرض
الملتهب,
ويغذي
الأثمار والنبات
ناظمًا لآلىء
في ثغور
الورود. وكلما
وزع من مياههِ
زادت مياههُ
اتساعًا
وتدفقًا, فيتابع
السير بعقيقه
الفخم واسع
العظمة رحب الجلال,
حتى إذا ما
جلب النفع على
الكائنات,
وملأ الديار
خيرًا وثروة
وجمالاً, رأي
البحر منبسطًا
لاحتضانه,
فشهق الشهيق
الأخير,
وانصبّ في صدر
البحر مهللاً
مكبرًا. كذلك
عاطفة
الأُخوَّة لا
تكون أخوَّة
حقيقية إلاّ
إذا خرجت من
حيز الشعور
إلى حيز
العمل, تنفجر
عذوبتها على
ذرى الاجتماع,
وتجري نهرًا
كريمًا بين
طبقات
المجتمع,
فتلقي بين
المتناظرين
سلامًا, وبين
المتدينين
تساهلاً,
وتنقش محامد
الناس على النحاس;
أما العيوب
فتخطّها على
صفحة الماء. تساعد
المحتاج ما
استطاعت بلا
تفريق بين
المحمدي
والعيسوي
والموسوي والدهري.
ترفع المسكين
من بؤس
الفاقة, وتنشر
على الجاهل
أشعة العلم
والعرفان,
وتفتح أبواب
الرجاء
لعيونٍ
أظلمتها
أحزان
الليالي. فكم من
درةٍ في أعماق
البحر لم
تُسَرَّ بها
النواظر
لأن يد
الغوَّاص لم
تصل إليها!
وكم من زهرة
نوَّرت في
الفقر, فتبدد
عطرها جزافًا
في الهواء!
إنما الإخاء يزيح
بيده الشفيقة
الشوك عن
الزهرة
المتروكة,
ويرفع لها
جدرانًا تقيها
ريح السموم
الفتاك. هو
العين المحبة
التي ينفذ
نظرها إلى
أعماق النفس
فتري أوجاعها,
وهو الهمة
العاملة لخير
الجميع بثقة
وسرور, لأنه
القلب الرحيم
الخافق مع قلب
الإنسانية
الواجف.
الإخاء! لو
كان لي ألف
لسان لما
عييتُ من
ترديد هذه
الكلمة التي
تغذت بها
الضمائر
الحرة,
وانفتحت لها
قلوب
المخلصين. هي
أبدع كلمة وجدت
في معاجم
اللغات, وأعذب
لفظة تحركت بها شفاه
البشر. هو
اللِّين والرفق
والسماح, كما
أنه الحِلم
والحكمة
والسلام. لو
كان لي ألف
لسان لظللت أنادي بها
(الإخاء! الإخاء!)
حتى تجبر
القلوب
الكسيرة, حتى
تجف الدموع في
العيون
الباكية, حتى
يصير الذليل
عزيزًا, حتى
يختلط رنين
الأجراس
بنغمات
المؤذنين,
فتصعد نحو الآفاق
أصوات الحب
الأخويّ
الدائم
-------------------
من كتاب
(كلمات
وإشارات), 1922
مي زيادة