الفسيــفـســاء

     ماذا تعني كلمة الفسيفساء ؟ كثير من القواميس لا يأتي على ذكرها ما عدا محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني (1819-1883) ففي صفحة 690 نقرأ فسفس و الفسفاس وهو الأحمق المتناهي في الحمق وأيضا هو نبت خبيث الرائحة و الفـَسْـفـَسْ وجمعها فسافس و تعني البق والفسافسة لقب للروم نسبة إلى مرقص الأفسوسي و الفسفسي لعبة لأولاد الأعراب و الفسفوسة عند العامية بثرة التهابية تعلو الجلد أما الفسيفسة أو الفسيفساء فهي قطع صغيرة ملونة من الرخام وغيره تبلط بها الدار أو القاعة بأشكال هندسية وتعني لنا في البنائية المربعات المتلاصقة البيضاء والسوداء في وسط الهيكل  وتسمى بالفرنسية Le Pavé Mosaïque .

    وإذا إستطلعنا أصل الكلمة باللاتينية القديمة نجدها Musiuum Opus وصارت مع الزمن Mussiuum,  ثم أصبحت فيما بعد Mosaïque ومع التطور النطقي أصبحت باليونانية Mouséion وهو هيكل لآلهة الشعر والفنون والتي تحولت اليوم إلى كلمة Musée والتي نعرفها بمعنى متحف.

     ففي النص الماسوني والمسمى Edinburgh Register House لسنة 1696 ميلادية وهو الأقدم في شرح هذا الموضوع نجده يعتمد التفسير اللغوي فيذكر أنه سمى بفسيفساء موسى Pave de Moise أو ما يسمى بلاط موسى أو البلاط العظيم ونقرأ في كتاب تشريح الماسونيةThe Masonry Dissected   للمؤلف بريتشارد Pritchard سنة 1730 أن الفسيفساء هي في آن لوحة الدرجة وأيضا تبليط تجميلي لأرض الهيكل وفي رواية أخرى هي البلاط الذي يسير عليه الكاهن الأعظم في هيكل سليمان لأخذهم بفكرة أن كلمة Mosaïque مشتقة من اسم موسى Moïse وهذا وتحوير غير مقبول وكل ماسوني يحبذ هذا القول أبسط ما يقل فيه أنه غير دقيق. و الحقيقة تقع فيما سنورده في الآتي: -

     ففي الرجوع إلى كلمة Mosaïque   نجد أنها تتواجد لغويا على هيئتين الأولى هيئة إسم والثانية على هيئة صفة. ولما كانت الفسيفساء هي إسم وليست صفة لنوع خاص من أنواع الهندسة البنائية ولترتيب خاص لأنواع من الحجر أو الزجاج أو السيراميك وهذا ما نجده كفن بنائي داخل الهيكل أما إذا تواجدت على هيئة صفة فهي تعني شريعة موسى Loi de Moïse = Loi Mosaïque. والتاريخ خير برهان على ذلك فمن أقدم الاكتشافات الفسيفسائية السومرية ببلاد ما بين النهرين والتي يعود تاريخها إلى حوالي سنة 2500 ق.م. أي قبل موسى بزمن نجدها وقتئذ كسنجق يوضع على مركبة وتسمى سنجق أور وهذه الفسيفساء مصنوعة من صدف القواقع المطلي والمثبت حولها حجارة اللازورد وكانت تستعمل في مركبات الحرب ومركبات مواكب السلم ثم نجدها أيضا في القرن الثامن ق.م. و تواجدت ما قبل المسيح بلونين أبيض و أسود أو بثلاثة ألوان هي الأبيض و الأحمر و الأسود وتحديدا في أسيا الصغرى بمنطقة Gordion، ومن تركيا انتقلت إلى اليونان في القرن السادس حيث نجد أنموذج في مدينة دلف Delphi  ونجدها أيضا في كورنثوس و صقلية ومصر وفي إريتريا ثم انتقلت إلى الرومان المتأثرين بالحضارة اليونانية وفي القرن الأول للميلاد نجدها في فسيفساء بامبيي Pompéi و بالرمو ومالطا ثم شاعت في عالم الأيقونات، ومن الفسيفساء التاريخية الدينية هي فسيفساء كنيس بيت ألفا وهو قرب طبرية والذي يعود تاريخه إلى سنة 518 ب.م. وقد اهتمت بها كثيرا قبائل الشمال من بعد عهد سليمان الحكيم و نجدها أيضا في الكنائس المسيحية على أشكالها وأنوعها وبشكل عديد يصعب حصره في كتب. وناهيك عن الفسيفساء في الفن المعماري الإسلامي إن في الأندلس أو في إيران وقد وصلت إلي عصرها الذهبي أيام البيزنطيين علي يد البنائين

. وللفسيفساء نوعان من الناحية الهندسية: النوع الأول وهو الأرضي و النوع الثاني وهو الجدراني.

 إلا أننا نتساءل ماذا يعنينا نحن الماسون أمر هذه الفسيفساء ؟  والتي نراها أمام أعيننا ولا يسمح للأخ السير عليها و السبب في هذا يأتينا في شرح  Jules Bouchet في كتابه La Symbolique Maçonique   سنة 1981 إذ يقول في حال مرور الأخ على الفسيفساء فإنه يخطو فوق الأبيض والأسود أي أنه ينتقل من الجيد إلى الرديء وهو الأمر الذي لا تعترف به الماسونية فهو دوما إلى الأفضل وإلى الجيد وليس للأسوأ.

فما هي الفسيفساء ؟ إنها تلك المربعات السوداء والبيضاء المتلاصقة جنبا إلى جنب في وسط أرض  القدس الهيكلي و تفسيرها  وفقا لراجونRagon  في كتابه Apprenti  Maçon  Rituel de Lصفحة 66 و 67 إذ يقول إن هذا الرسم ألفسيفسائي يمثل الأرض التي نعيش عليها فهي مكونة من حجارة مختلفة ولكنها متحدة بملاط واحد وهذا هو الغرض من الماسونية فهي وإن اختلف اللون والمناخ والعقيدة والفكر والجنس فهي تجمعنا كلنا في بوتقة واحدة لننصهر كلنا ولنكون جسما واحدا تضعي عليه صورة الحكمة والقوة والجمال لأن هذا هو طريق الحياة المثلي التي أمرنا بها مهندس الكون الأعظم .

     أما بلانتاجونيApprenti  Plantagenêt dans sa causerie en Loge d  صفحة 128 يقول إنها الحقيقة فقط هي التي تجمعنا .و نرى في الوقت عينه ما يجمع الأبيض والأسود أعني عنصر الازدواجية وقوانينها ومن أكبر الأمثلة على ذلك ازدواجية العمودين فالأول يعني القوة والثاني يعني الجمال.

     أما  Wirth في كتابهLe Symbolisme occulte de la Franc Maçonnerie   الصادر سنة 1928 صفحة 43 في النسخة الأصلية وفي صفحة 69 في النسخة الصادرة سنة 1975 والمعاد طبعها سنة 1979 نقرأ أن إدراكنا للشيء ينتج عن التضارب في أمر هذا الشيء فإذا تجانس الكل وصلنا إلى العدم. إن التفسير المقبول هو ازدواجية الخير و الشر الفرح والطرح والراحة والقلق والسعادة والحزن كما أنه يعني أيضا الجسد و الروح المتحدين كما تتحد البلاطة السوداء مع البلاطة البيضاء وبمعنى آخر البلاطة البيضاء الممثلة للروحانية والتي تمثل الصفاء والنقاء وحسن السريرة والبلاطة السوداء الممثلة للماديات ونعني بالماديات كل ما يحط من أمر الإنسان ويجعله مخلوقا فسيولوجيا أي يعيش ليأكل لا أن يأكل ليعيش. ثم نتساءل هل هناك من مكافئة بدون عمل ؟ إن الحياة و خاصة المعاصرة هي كفاح وجهد ومعانات وصعاب يتحتم علينا أن نجابهها بكل إقدام وبأس و بسالة وشجاعة وبطولة و مروءة و شهامة لننال في آخر المطاف إرضاء الذات.

     ونجد في تراثنا القديم عشتروت التي تمثل الآهة الحب والأحياء والتي تحب هؤلاء الذين لا يخشون الألم والتوجع فهي تحسن مكافئتهم و تنعم عليهم جزاء أعمالهم وهي تمثل الشخصية الشِعرية النظمِية لجماعة تعرف بجماعة " دين الحياة "والتي كانت تؤمن بالحب والحرب على السواء أي أنها مصدر حياة وقوة وموت وهلاك ومن هذا المنطلق فالماسوني إنسان يحيا وطالما هو يحيا فهو يعمل لأن الحياة عمل لذا وجب عليه أن يعيش ويقبل بما في الحياة من مرارة وتعب. ألم يكتب بعرق جبينك تأكل خبزك !

      وقد علمتنا أسطورة عشتروت أنها نزلت إلى الجحيم وقاست ما قاسته من عذاب وضيق وضنك لكي تحصل على السعادة وتستحوذ على من تحب. أليس بالأحرى أن نقوم نحن الماسون بدور عشتروت ؟ فنكون بذلك قد أرضينا أنفسنا وأرضينا إخواننا.

ومن المعلوم عن قوانين نيوتن للحركة أن لكل فعل رد فعل مساوي له بالمقدار ومضاد له في الاتجاه فإن كل من يسير على هدى الأخلاق والصراط المستقيم يتعرض لقوى غيبية شيطانية إغوائية تحاول مستغوية دفعه للانحراف إلا أن حُسن السير والسلوك والحكمة والحنكة والفضائل وجميل الشمائل وتهذيب اللسان والمربى الصالح والبعد عن الهذر ورياضة النفس على عمل المعروف والنهى عن المنكر واجتناب الفحشاء واللسان البذيء، إذ أن الماسونية الحقة تشكل القوى المعاكسة وهي الضابط لهذا الانحراف التي تجعل من الأخ إنسانا محمودا مشكورا ذو صيت حسن محترم من الجميع لا يتجرأ أحد على التطاول عليه كما عليه أن يحترم الغير كاحترامه لذاته وهذا ما نطالعه في افتتاح أعمالنا إذ أن نظام وقانون محفل بيت إيل الأكبر قد أتى على ذكر هذا فكل مخالفة هي حجر غشيم وكل حجر غشيم لا يجوز وضعه في البناء الجميل هو إعاقة لعمل محفلنا والذي لا نقبل أي إعاقة لمسيرته.

References:

1696  :  Edinburgh Register House

The Masonry Dissected  :  Pritchard  1730

La Symbolique Maçonnique; Jules Bouchet 1981

Ragon (Page 66-67 ) Apprenti  MaçonRituel del

Apprenti  (Page 128)Plantagenêt dans sa causerie en Loge d

Le Symbolisme occulte de la Franc Maçonnerie Oswald Wirth: 1928 (Page 43)